درة فريدة وتحقيق جديد لراهب متبتل في محراب التراث

القاهرة 24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الخميس 16/مايو/2024 - 09:02 م

لعل من أنفع الأمور لطلاب العلم أن تنتصب لهم قدوة سامقة، تنير لهم الطريق إذا ادلهمت بهم الخطوب، وتشد من عزائهم إذا أصابها الفتور، وتعطيهم الأمل إذا أحدقت بهم الخطوب، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن من هذه النفحات المباركة، أن يمنّ الله عليهم بالتلمذة لأستاذ حقيقي، يؤصل في نفوسهم معاني العلم، ويرسخ في أذهانهم قيمته، ويحثهم على مواصلة العطاء والإبداع، وتتأكد هذه القيم إذا واصل الأستاذ عطاءه يومًا بعد يوم، دون أن يحول بينه وبين عطائه علو سنه أو ضعف بصره.

وقد منّ الله علينا في هذه الأيام بنفحة مباركة، تؤكد ذلك كله وترسخه، فقد صدرت منذ أيام قلائل عن دار الكتب والوثائق القومية درة جديدة وتحقيق رصين لأستاذنا الكبير الأستاذ الدكتور محمد يونس عبد العال، وهو تحقيقه البديع "للمختار من رسائل أبي إسحاق الصابي".

والحق إن الإنسان ليعجب من هذه المثابرة الدؤوبة، والاجتهاد البالغ، والتأني الشديد الذي يتمتع به أستاذنا أمدّ الله في عمره ونوّر بصيرته. فها هو، وهو على مشارف النصف الثاني من العقد التاسع من عمره المبارك، يرهق بصره المجهد مستعينًا بعدسة مكبرة، ويكد فكره الألمعي، وعقله الخبير، ليعكف على مخطوطات المختار من رسائل أبي إسحاق الصابي ليخرجها لنا في حلة قشيبة، سالمة من التصحيف والتحريف.

ويتضاعف شعور الإنسان بقيمة هذه النفحة المباركة إذا علم ما أنفق فيها من جهد هائل وعمر طويل، فقد بدأ أستاذنا عمله في تحقيق المختار من رسائل الصابي منذ نصف قرن أو يزيد، وذلك عندما سجل رسالته للدكتوراه في تحقيقها في أوائل السبعينات، حتى نال بها درجة الدكتوراه عام 1978م.

ومنذ ذلك الحين لم تنقطع صلته بها، إذ آمن أستاذنا في أعماق نفسه أن هذه الرسائل القيمة، لذلك الأديب الكبير والمترسل البليغ، تستحق مزيدًا من التأني والمثابرة؛ فكان يعاود عمله فيها الفينة بعد الفينة، محققًا ألفاظها، مدققًا أساليبها، حتى جمع في سبيل تحقيقها أحد عشر أصلًا خطيًّا، وذلك حتى يتكمن من إزالة ما وقع في مخطوطاتها من تصحيف، وما عجت به مطبوعاتها من تحريف، حتى آن الأوان وتهيأت السبل أن تخرج للنور مزدانة بهذا الجهد الكبير، مزهوة بهذه العناية البالغة.

والحق أن هذه الرسائل المختارة من ديوان رسائل أبي إسحاق الصابي تستحق كل ما بذل فيها غاية الاستحقاق، وهي حفية بكل ما نالته من اهتمام، فصاحبها أحد أكبر الأدباء المترسلين في الأدب العربي على اختلاف عصوره وتنوع أمصاره، شهد له كبار البلغاء والأدباء كأبي حيان التوحيدي والقلقشندي، فهو، كما يقول أستاذنا الدكتور محمد يونس عبد العال "مبدع يعتني عناية فائقة بمعانيه، يحسن ترتيبها والتعبير عنها، مع وضوحها وجلائها، وميل إلى التفخيم والتهويل والاستقصاء والإحاطة بجوانب الموضوعات التي يعرضها، وهو بصير بمواقع الكلام، خبير بالنفوس ومسالك التأثير فيها، حريص على أن يحسن أساليبه بضروب من الموازانات -دون إغراق في القيود البديعية- وتوشيتها بالتشبيهات والمجازات والتضمينات والاقتباسات والتلميحات، التي أجاد في إيرادها في مواضع معبرة موحية، فنأت أساليبه عن الغثاثة والتكلف، أسعفه على ذلك موهبة غالبة، وقدرة عالية، ومهارة لغوية مسيطرة، وعقل منطقي يحسن التنسيق والتقدير، فاقتدر على أن يتحدث في كتاباته الديوانية والإخوانية عن أمور الدولة، وعما يضطرب فيه الناس من الأحوال، بإنشاءات نالت إعجاب القدماء وأرضت أذواقهم، ودلت على رقي النثر الفني واتساع آفاقه في القرن الرابع الهجري، كما نالت أيضًا إعجاب المتأدبين على مر العصور بإفصاحها البليغ عن مختلف العواطف الإنسانية".

والحق كذلك أنه ما كان لهذه الرسائل أن تخرج على هذا النحو الذي خرجت عليه من الدقة والإتقان والإحكام إذا لم يتصد لتحقيقها أحد كبار المحققين العارفين كأستاذنا الدكتور محمد يونس عبد العال، فقد استعان أستاذنا في تحقيقه لهذه الرسائل المرهقة بخبرة عريضة زادت على ستين عامًا في خدمة التراث العربي، وهي خبرة عميقة أهلته لأن يكون بحق أحد رهبانه المتمرسين وأعلامه المجيدين.

فالناظر في قائمة تحقيقاته يعجب من كثرة نتاجه، وتنوع اهتماماته، وسعة محصوله، إذ لم يقتصر على فن بعينه من فنون القول، بل أسهم إسهامًا في تحقيق شتى فنون الأدب العربي، فجمع شعر الوليد بن يزيد وحققه تحقيقًا بليغًا ودرسه دراسة فاحصة، كما درس رسائل عبد العزيز بن يوسف دراسة فنية، وحقق رسائل أبي منصور الهروي المعروفة بـ(منية الراضي برسائل القاضي) ودرسها دراسة وافية، وجمع ما تبقى من شعره ودرسه، كما حقق كتاب تفريج المهج وسبب الوصول إلى الفرج للوشاء، وقدم له بدراسة ضافية، كما جمع ما تبقى من نثر عمرو بن مسعدة، بالإضافة لاختصار كتاب الكامل للمبرد، 
أما دراساته العلمية والنقدية فقد تعددت آفاقها تعددًا كبيرًا، وتنوعت عصورها تنوعًا معجبًا، فسبر أغوار الروح المصرية في شعر البهاء زهير، وكتب مداخل ضافية عن عدد من الأدباء والبلغاء في شتى عصور الأدب العربي القديم، فكتب عن: أبي الخطاب المفضل بن ثابت الضبي، وعبد القادر البغدادي، والتبريزي، والخليجي الحلواني، وأشجع السلمي، والأمين العباسي، وعمرو بن أحمد الباهلي، والسري الرفاء، والببغاء، وإسماعيل الوشلي النصر اباذي، والفضل النوبختي، وعلى اليونيني كم أفرد عددًا من دراساته العلمية لعدد كبير من الأدباء والنقاد المحدثين والمعاصرين، فكتب دراسات قيمة عن: سيد بن علي المرصفي، وأنستاس ماري الكرملي، وحسن العطار، وحفني ناصف، ومحمد المويلحى،و حمزة فتح الله، والعقاد، وزكي مبارك، ومحمد مندور، وشوقي ضيف، وحسين نصار، وإبراهيم عبد الرحمن، ومحمد عوني عبد الرؤوف، وحسن البنداري... وغيرهم.

بهذا الزاد الوفير من الدراسات العلمية والنقدية، وبهذه الروح المتفانية في العطاء العلمي والبذل الأكاديمي، استطاع أستاذنا أن يفض مغاليق المختار من رسائل أبي إسحاق الصابي، وتمكن باقتدار من استدراك ما وقع في الطبعات السابقة من أخطاء تحول بين ارتشاف الضرب من هذا السحر الزلال الذي خطته يراعة الصابي.

وختامًا أقول إن صدور مثل هذه الأعمال العلمية الباذخة بهذه الأصالة والدقة تبعث الأمل في نفوس الباحثين وتقيم له الصوى وتنصب لهم الأعلام في سبلهم، وما هذه النفحات المباركة إلا تصديقًا للحديث الذي رواه الطبراني -بسند فيه ضعف- عن محمد بن سلمة، قال: قال رسول الله ﷺ: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي بَقِيَّةِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَها".

فتحية عامرة بالحب والتقدير لأستاذنا القدير على ما يسديه كل يوم من جهد، وما ينفحنا به من عطاء، والحمد لله رب العالمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق