خبراء يفكّكون أزرار "المعارض الاستعادية"

هسبريس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

“فنانون قلائل عاشوا ليروا معارضهم الاستعادية، أو [تعريتهم]، وهو ما يشكل حدثا مفرحا لكنه في الآن ذاته مؤلم أو مميت (…) فعندما أنهينا تثبيت الأعمال، رأيت في جولة فترةً مهمة من حياتي تمر أمام عينيّ، وكل عمل هو شاهد على تاريخ لقاء، أو مكان، أو لحظات عشتها”؛ كان هذا القول الذي يعود للفنان التشكيلي المغربي البارز فؤاد بلامين في وقت سابق، حاضراً لـ”تأثيث” سماء “نظرة على الفنون” ضمن الدورة الـ29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط.

اللقاء “الجَمالي”، الذي حضر فيه “هذا القول”، وأقوال أخرى، كان مهتمّا بموضوع “المعارض الاسعادية: المسار الشخصي والذاكرة الجماعية”، بمشاركة جملة من الفنانين والنقاد الجماليين، تحت تسيير الفنان التشكيلي والشاعر والأكاديمي عزيز أزغاي. وحاولت “اللمّة العلمية” أن تفكّ أزرار هذه المعارض وتكشف “الخصاص” الذي يعيشه هذا النوع منها بالمغرب، بحيث وصفها أحد المتكلّمين ضمن الفعالية بأن “وضعيتها ليست على ما يرام لدينا”.

استحضار مسار

الناقد والأكاديمي أحمد لطف الله قدم كلمة تمحورت حول “المعارض الاستعادية ذاكرة للفنان أم ذاكرة للفن؟”، منتقيا زاوية “الذاكرة المشتركة بين الفنان وما يمتلكه من وعي فني دائم التطور، وبين منجزه الفني الذي يشكل لبنة ضمن بناية الإبداع الفني الشاهقة التي يخلدها تاريخ الفن والجمال”، وقال: “مسار الفنان هو عبارة عن مراحل تفضي كل واحدة منها إلى لاحقتها وفق منزع للتطوير يحكمه تطور النضج الفني والترقي الحاصل في الوعي الجمالي لدى الفنان”.

وهذه “الحقيقة” منحت لطف الله المشروعية ليلقي مجموعة من الأسئلة: “ما الغاية من عرض الفنان عيّنات من مسار منجزه الفني منذ البدايات؟ هل لكي يمنحنا متعة لمس المنعرجات التي يمارسها على جسد لوحته أو عمله الفني عموما أم لكي يقربنا من ذاكرته الفنية وكيفية تشكل وعيه الجمالي أم فقط يلخص لنا الريبتروار الفني عبر التمثيل لمختلف مفاصله الأساسية؟ وأوضح: “هناك فرق بين الاشتغال على الذاكرة وعرضها”.

وسجل المتحدث أنه “في الاشتغال على الذاكرة يسعى الفنان إلى القبض على لحظات من الزمن وتثبيتها في اللوحة أو العمل الفني عموما، لكن عرضها هو هذا الاستعاد الذي يشبه رسم تدفق الزمن”، معتبرا الاستعادة “تجسيدا لذاكرة الألوان والأشكال ومختلف مكونات أبجدية الفنان”، وأورد: “بالنسبة مثلا للون هناك مسار لوني للفنان، ومن المؤكد أنه سيتكون لدينا إحساس يمزج بين المتعة والمعرفة، ونحن ننظر في ألوان الفنان الحالية أو الأخيرة مدركين لمختلف التطورات التي مرّ منها اللون عنده”.

وعدّ لطف الله المعرض التشكيلي عموما والاستعادي ضمنه أيضا، “تظاهرة فنية قائمة”، و”ذات بعد انتفاعي أساسي”، مؤكدا وجود “علاقة عملية بين فنان يبدع ومتلقي بصري يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى مستهلك بفعل الاقتناء”، وقال: “طبعاً ليس كل ما يُبدع فنّان. ولا شك أن أي فنان تشكيلي يحتفظ في مرسمه بأعمال غير مكتملة أو أعمال لم تنل رضاه الكلي مثل الكاتب تماماً في علاقته بالنصوص التي كثيرا ما يمزقها”.

وضعية ملتبسة

بوجمعة أشفري، فنان مدير نشر مجلة “أصدقاء ديونيزوس”، استدعى أصل الكلمة في الفرنسية “une rétrospective”، ليقول إنها “تبدو وكأنها مركبة، بل إنها مركبة فعلا، لكونها استعادة لكل ما تم عرضه،”، متسلّحا بما قالته المعاجم الفرنسية التي “تواطأت” في تقديم معنى متشابه: “معرض يقدم بطريقة كرونولوجية تطور مسار مبدع، مدرسة فنية أو شريط منجز لتقنيات فنية”، ثم عاد إلى الترجمة العربية للتسمية “المولييرية” سالفة الذكر التي تقابلها في لغة الضاد ثلاث عبارات: المعرض الاستعادي أو المعرض الاسترجاعي أو الأثر الرجعي.

ولم يكفّ الشاعر عن طرح الأسئلة في مداخلته سعيا منه لـ”إدخال الحس النقدي وإعمال ملكة التفلسف”، كما عبر عن ذلك مسير اللقاء أزغاي. وتابع أشفري: “نتساءل هل يمكن أن نعتبر المعرض الاستعادي لأي فنان حدثا فنيا مرجعيا؟ عادةً، حينما يسأل فنان ما عن سبب قبول دعوة مؤسسة فنية لعرض مجمل أعماله تحت يافطة ما يسمى معرضا استعاديا، يجيب دون تردد: هي فرصة تتيح لي كما تتيح للمهتمين بالفن التعرف على مساري الفني بشتى مراحله”، مشيرا إلى من يرفض الفكرة تماما، مجابهة لفكرة “الموت”.

وسجل المتحدث أنه “حين ننظر إلى ما تحتويه المعارض الاستعادية لا نجد سوى ما تم عرضه من أعمال فنية في المعارض الفردية، فما الفرق إذن بين المعارض الاستيعادية والمعارض الفردية؟”، منتقلا إلى طرح سؤال: “ما الذي تعنيه استعادة مجمل أعمال فنان ما؟”، وأضاف: “حينما تتم مقارنة المعارض الاستعادية التي تقام في باريس وبرلين أو نيويورك مع نظيرتها التي تقام في مدننا، ومن ضمنها على وجه التحديد مدينة الدار البيضاء والرباط، يتبدى لي أن شيئا ما ليس على ما يرام في معارضنا الاستعادية في المغرب”.

وزاد خاتما: “تفتح مساء تدوم شهرا أو شهرين، بدون لقاءات تعقد لطرح الأسئلة حول المعارض باعتبارها تشكل لحظة استثنائية قد لا تتكرر”.

شهادة على مناخ

الأكاديمي والفنان التشكيلي بنيونس عميروش قال إن “أي معرض فني في مجال الفنون التشكيلية والبصرية يخضع للمعايير خاصة بطرق التقديم التي ترتبط بنوعية الأعمال: لوحات، صور فوتوغرافية، قطع نحتية، تركيبات فضائية، إلخ”، مسجلا في السياق ذاته أن “المعرض الاستعادي أو الاسترجاعي يخضع لخاصية أساسية تقوم على المعيار التسلسلي، الذي يأخذ بيد المتلقي والناقد الفني ومؤرخ الفن والمهتم عموما، ويدفعه إلى ملامسة التتبع المنطقي والمختصر لتطور تيار فني سابق أو أسلوب عصر محدد أو إنتاج فنان بعينه”.

عميروش أكد ضمن مداخلته أن “المعرض الاستعادي يمثل نتيجة ملموسة تحدد تاريخا وتطورا للحقيقة الإنتاجية لدى الفنان منذ البداية، والحقيقة الإنتاجية الكاملة من بداية التجربة إلى نهايتها لدى الفنان الراحل”، متّكئاً في قوله على “تاريخ الفن الذي يقوم على متوالية من الآراء والأحكام الممتدة في الزمان والمكان، وهي الأحكام التي لا تظل لازمة في أحايين كثيرة”، وأوضح: “تبدلات كثيرة تطرأ على عناوين الأعمال ومسمياتها والتغييرات فيما يعرف عنها ويقال”.

وشدد المتحدث على أن نوع المعارض هذا “يلقن المتلقي مسبقا قواعد مبدئية في تاريخ الفن انطلاقا من الكيفية التي يتم بها ترتيب الأعمال وطرق تعليقها وتقديمها، وعملية الترتيب هنا تعني توليفة نسقية زمنية للعمل الفني والفنان ذاته باعتباره مبدعا منتجا، في الوقت الذي يعكس عمله ذاكرته الشخصية في زمن معين ومناخ معين قد نستحضر معه كمشاهدين جوانب الحقبة المعينة بأجوائها الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها”.

وأجمل قائلا: “كلما تمكن المرء من التمييز بين المراحل والحقب التاريخية، ازداد رد الفعل وكبرت مساحة الملاءمة وفق حرفية التنظيم والتبويب والترقيم التي ينبغي أن يتحلى بها القَيّم حتى يمكّن المعرض الاستعادي من تأدية غرضه باستحقاق في إدراك تراتبية الأعمال واستيعاب سماتها الأساسية وخيوط تقدمها”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق